09 أبريل، 2012

وجبة جميع الأوقات


في كل عام، وبشهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول)، ومع وصول موسم الباذنجان إلى أواخره في القطاف والتسويق وانطلاق موسم قطف وتسويق الجوز ومع تحول (الفليفلة) إلى اللون الأحمر تستنفر النساء السوريات لإطلاق موسم (مونة المكدوس) الذي يأخذ طابعا احتفاليا منزليا؛ حيث تجتمع على إعداد المكدوس الأم وبناتها وكناتها في نهار طويل يبدأ منذ الصباح الباكر وينتهي في المساء، وعلى الرغم من قيام الكثير من أصحاب المصانع الغذائية في المدن السورية وورش تحضير الأغذية الجاهزة في سوق التنابل بمنطقة الشعلان بالعاصمة السورية دمشق فإن الكثير من النساء يفضلن تحضير مكدوس الباذنجان في منازلهن على الرغم من الجهد الذي يتطلبه والوقت الطويل لإعداده، وتبرر سلمى بيطار (أم سامر) خمسينية العمر، التي كانت تشتري الباذنجان من سوق الهال القديمة وسط دمشق، تحضير المكدوس في منزلها قائلة: هناك 3 أسباب لذلك، الأول: أنني وأسرتي لا نثق كثيرا بنظافة هذه الورش الغذائية وأنها تحضر المكدوس حسب الأصول والمعايير المطلوبة لإعطاء المذاق اللذيذ والمعروف للمكدوس، والثاني: أنهم قد يستخدمون نوعيات غير جيدة من مكونات المكدوس، خاصة الباذنجان والجوز، كما تعلم - تضيف سلمى - هناك في السوق عرض للكثير من أنواع الجوز المستورد كالأوكراني والروماني والإيراني، وهو بالتأكيد أرخص وأقل جودة من الجوز البلدي الذي يأتي من غوطة دمشق وغيرها، والسبب الثالث: أنني وعائلتي نشعر بالاستمتاع وبنوع من الاحتفالية السنوية الخاصة ونحن نحضر المكدوس..

لكن كيف يتم تحضير المكدوس في المنزل أو في الورش الغذائية؟ تجيب عن السؤال أم سامر: يؤتى بالباذنجان الذي يجب أن يكون متوسط الحجم (هناك من يفضله صغيرا) وتتم إزالة قمعه العلوي مع حراشيفه الخشنة التي تغطي قمة الباذنجانة، ومن ثم توضع في وعاء كبير (حلة) نحاسي أو من الألمنيوم ويضاف لها الماء بكميات تعلو مستوى الباذنجان في الوعاء، وبعد ذلك يتم سلقها على نار قوية حتى تسوى تماما ويتقلص حجم الباذنجان نتيجة السلق، وهذه العملية تستمر نحو 3 ساعات، بعد ذلك يزال الماء المغلي من الوعاء بشكل دقيق وببطء حتى لا يتطاير ويؤذينا - تتابع أم سامر - وفي المرحلة التالية نرش الماء البارد على الباذنجان المسلوق لكي لا يغمق لونه ويصبح منظره غير محبب، بعد ذلك يوضع في مصافٍ خاصة لمدة ساعتين لكي لا يبقى فيه الماء ويبرد داخله، وتأتي المرحلة التالية وهي تحضير الملح الصخري الخالي من اليود ونقوم بفتح كل باذنجانة مسلوقة من خاصرتها بواسطة سكين وتعبأ بقليل من الملح، بعد ذلك نضع قطعة قماشية كبيرة في مصفاة ويرتب الباذنجان بشكل هندسي في قطعة القماش، بعدها يتم إحكام الإغلاق على الباذنجان بالقماش الذي يوضع عليه وزن ثقيل مثل حجر كبير أو قطعة فخار قاسية، ويترك بهذا الحال لمدة يوم كامل حتى لا تبقى به أي نقطة ماء، أي يجفف تماما لنقوم بعد ذلك بفرده على صوانٍ واسعة، في هذه الأثناء نكون قد حضرنا حشوة المكدوس، وهي عادة من الفليفلة الحمراء المجففة المطحونة بشكل متوسط (عادة تباع جاهزة للحشو أو هناك نساء يصررن على تجفيفها في منازلهن بواسطة الشمس حتى تعطي نكهة أطيب وألذ وطبيعية أكثر للمكدوس) ومن الجوز البلدي المفروم وقليل من الثوم حسب رغبة المتذوق ونقوم بوضع هذه الحشوة في المكان الذي شقت به الباذنجانة لوضع الملح فيها ولنصل إلى المرحلة النهائية في تحضير المكدوس، وهي وضع الباذنجانات في قطرميز (وعاء) زجاجي بشكل أنيق، مع إضافة زيت الزيتون ولتغلق بشكل جيد، ولتصبح جاهزة للتناول أو للتخزين عادة لفصل الشتاء؛ حيث يعتبر المكدوس من أهم مفردات مائدة الفطور والعشاء، حتى إن البعض يتناوله على شكل ساندويتش، خاصة أطفال المدارس، وتوضح أم سامر أن على سيدة المنزل أثناء تخزين المكدوس في مطبخها الذي يستمر لأشهر كثيرة لا بد لها من أن تتفقده باستمرار كل أسبوع حتى تراقب في حال انخفاض كمية الزيت لتضيفه له باستمرار وبشكل يغمره تماما وإلا سيتعفن المكدوس ويضيع جهد وتعب موسم كامل وستلقى بالتأكيد سخط زوجها وأولادها الذين سيحرمون من وجبات المكدوس الشهية في فصل الشتاء أو سيضطرون لشرائه جاهزا من المحلات.

بالطبع، فإن جودة المكدوس تتعلق، كما أسلفنا، بجودة المواد الأساسية المكونة له، وعلى الرغم من أن مذاقه واحد فإن لونه قد يختلف حسب رغبات المتذوقين وحسب المناطق السورية، فمن المعروف أن الشوام يفضلون تحضير المكدوس من الباذنجان ذي اللون الأسود الذي يعتبرونه الأجود؛ حيث ينتج بكثرة في غوطة دمشق وينادي عليه باعة الخضار بشكل فلكلوري جميل وبأهزوجة شعبية كما هو حال مناداتهم على الفاكهة والخضار الأخرى ليجذبوا انتباه المتسوقين فينادوا عليه بعبارة موسيقية وهي: «أسود متل الليل يا بتنجان»، فإن نساء مدينة حمص، وسط البلاد، يفضلن استخدام الباذنجان أحمر اللون المعروف في دمشق باسم الباذنجان الحمصي، ويكون عادة مخروطي الشكل مع سمك أكثر في لبه الشحمي، في حين أن نساء مدينة حماه المجاورة لحمص يفضلن استخدام الباذنجان المنتج في بساتين مزارعي حماة ويكون عادة ذا لون أحمر زاهٍ مائل للزهري وطويل، بحيث يعطي منظرا جميلا للمكدوس، كما أن هناك بعض النساء الريفيات يفضلن استخدام نوع من الباذنجان ينتج في مزارع المنطقة الشرقية من سوريا ويكون لونه مائلا للبياض مع حجم متوسط. أما المكون الثاني، فهو الجوز، الذي يستبدله البعض باللوز كونه أقل ثمنا على الرغم من أن مذاق المكدوس سيتغير بالتأكيد وسيكون أقل لذة باللوز من الجوز، وهناك من يستخدم السمسم بدلا من الجوز وسينتج مكدوس بمذاق مختلف أيضا، فإن ذواقي المكدوس وعشاقه، وهم كثر في سوريا، يفضلون شراء الجوز البلدي الذي تنتشر أشجاره في ريف دمشق والمناطق الداخلية على الرغم من سعره في موسم المكدوس، وعادة يكون في موسم قطافه الأول يصل لضعف سعر الجوز المستورد (الجوز البلدي يباع في أسواق دمشق بأكثر من ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 20 دولارا أميركيا) للكيلوغرام الواحد، في حين يباع الجوز الأوكراني والروماني بنحو 500 ليرة (10 دولارات) للكيلوغرام الواحد، وذواقو المكدوس يصرون دائما على أن تكون مقادير الحشوة متناسبة مع أهمية المكدوس كوجبة لا غنى عنها يوميا، ولذلك يضيفون لكل 10 كيلوغرامات من الباذنجان (قبل سلقه بالطبع) كيلوغراما من الجوز البلدي ونحو 200 غرام من الفليفلة الحمراء المجففة التي يجب أن تكون بجودة عالية ويستدل على جودتها من لونها الأحمر الزاهي، في حين تكون الأقل جودة مائلة للون الأسود، ومع وجود الفليفلة الجافة الجيدة في الباذنجان والزيت الأصلي فإن لونها الأحمر يزداد نضارة ويدلل ذلك على جودتها أيضا.

وكما ينظر للمكدوس على أنه وجبة لذيذة وشهية في الصباح والمساء فإن عشاقها ينظرون إليها أيضا على أنها مفيدة جدا للإنسان مع وجود خصائص وفوائد للباذنجان بلبه وقشره، الغذائية والصحية؛ حيث من المعروف أنه يمتص المواد الدسمة من الجسم ويحتوي على مستويات عالية من المركبات المضادة للأكسدة، وقشوره تحتوي على فيتامينات بي 6 وبي 1 وبي 3 وسي، وعلى معادن مختلفة كالبوتاسيوم والمنجنيز والنحاس والفوسفور وغيرها، كما أن الجوز معروف بغناه بالكثير من الفيتامينات والمعادن الضرورية لصحة الإنسان، وكذلك الحال بالنسبة للفليفلة والثوم ولزيت الزيتون، الغنية بالفيتامينات والمعادن والمكونات الغذائية.

المصدر ياهو مكتوب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق